روائع مختارة | قطوف إيمانية | في رحاب القرآن الكريم | حول قوله تعالى: {يا أخت هارون}

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > في رحاب القرآن الكريم > حول قوله تعالى: {يا أخت هارون}


  حول قوله تعالى: {يا أخت هارون}
     عدد مرات المشاهدة: 3168        عدد مرات الإرسال: 0

ورد في القرآن عند الحديث عن قصة مريم، قوله تعالى: {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} (مريم: 28).

وقد اعتبر فريق من النصارى، أن القرآن قد وقع في خلط واضطراب، عندما وصف مريم بأنها أخت هارون، مع الفارق الزمني بين العصر الذي وجد فيه هارون النبي، والعصر الذي وجدت فيه مريم أم عيسى؛ فأهل التاريخ يتحدثون عن ألف ومئتي سنة بينهما، وربما كان الفاصل الزمني بينهما أكثر من ذلك.

بالمقابل، فإن الكتاب المقدس (الإنجيل) قد خلا من هذا الخلط والاضطراب، إذ لم يرد فيه ذكر لـ مريم إلا على أنها أم عيسى، وابنة عمران، لا أخت هارون، وبالتالي فإن في هذا ما يثبت وقوع الخلط والاضطراب في القرآن.

هذا حاصل الشبهة، وما قيل فيها، ومقالنا التالي مكرس للرد على هذه الشبهة وتفنيدها، وردنا عليها من وجوه، منها:

- أن المتأمل في السياق القرآني الذي وردت فيه الآية، يجد ما يدل دلالة واضحة، على أن هذا الوصف الذي وُصِفت به مريم، لم يكن تسمية قرآنية، وإنما جاء وصفًا حكاه القرآن على لسان قوم مريم، وما خاطبوها ونادوها به عندما حملت بـ عيسى، مستنكرين ذلك الحمل، واتهموها في عرضها وشرفها وعفافها.

وحكاية القرآن لأقوال أقوام آخرين أمر وارد ومعهود؛ كما في قوله تعالى: {قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم} (الأحقاف: 30)، فالقرآن هنا ناقل لقول الجن، وإلا فأين ذكر الإنجيل، وهو قبل القرآن؟ فالله سبحانه نقل ما قالوا فحسب، وإلا فالواقع التاريخي غير ذلك.

وهكذا السياق القرآني في سورة مريم جاء ناقلاً قول اليهود في حق مريم، قال تعالى: {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئًا فريًا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيًا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيًا} (مريم: 27- 29).

فقوله سبحانه: {يا أخت هارون} إنما هو حكاية لتلك المقولة التي صدرت عن قوم مريم، وإثبات الاسم واللقب لا يدل على أن المسمى واحد. أما معرفة السبب في وصف قوم مريم لها {يا أخت هارون} فهذا أمر آخر، ساكت عنه النص القرآني، وينبغي البحث عنه فيما وراء ذلك.

- على أن سياق الآية - وهذا هو الأهم - لم يرد في معرض ذكر نسب مريم؛ فالقرآن لم يقل: إن مريم أخت هارون، وإنما ورد في معرض التوبيخ لها؛ لأنها في اعتقاد اليهود حملت سفاحاً، فما علاقة النسب الحقيقي بالسفاح؟ 

- وهنا ينبغي أن يثار سؤال: لماذا قال اليهود: {يا أخت هارون} ولم يقولوا: (يا أخت موسى وهارون) أو (يا أخت موسى) ؟ لا شك أنهم لم يقولوا ذلك عبثاً، وإنما نسبوها إلى هارون؛ لأن هارون - بحسب زعمهم - كان مصدر عار لهم، حيث صنع لهم عجلاً. وأيضاً فإن مريم العذراء - بحسب زعمهم أيضاً - فعلت عاراً؛ لهذا تهكموا بها واستهزؤوا منها قائلين: {يا أخت هارون} .

- ثم يقال أيضًا: إن هذه التسمية في حق مريم، إما إنها أطلقت في القرآن على سبيل الحقيقة، أو إنها أطلقت عليها على سبيل التشبيه. وحملها على سبيل الحقيقة أمر غير مستنكر؛ إذ ليس ثمة ما يمنع أن يكون لـ مريم أخ اسمه هارون؛ يؤيد هذا أن التسمية بـ (هارون) كانت شائعة ودارجة كثيرًا في بني إسرائيل.

وأيضًا ليس في ذكر قصة ولادتها، ما يدل على أنه لم يكن لها أخ سواها. وعلى هذا، فالتعبير القرآني بـ:  {يا أخت هارون} يمكن حمله على الحقيقة، فيكون لـ مريم أخ اسمه هارون، كان صالحًا في قومه، خاطبوها بالإضافة إليه، زيادة في التوبيخ، أي: ما كان لأخت مثله أن تفعل فعلتك.

وحمل هذه التسمية على التشبيه أمر وارد أيضاً وغير مستبعد، خصوصاً إذا علمنا أن التسمية بأسماء الآباء والأمهات تشريفاً بهم، شيء معروف، ولا سيما و هارون كان سيد قومه مهاباً عظيماً له شأن في بني إسرائيل.

وقد جاء في السنة النبوية ما يؤيد هذا، ففي (صحيح مسلم) وغيره عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرؤون {يا أخت هارون} و موسى قبل عيسى بكذا وكذا"؟ قال المغيرة:  فلم أدر ما أقول. فلما قدمت على رسول الله ذكرت ذلك له، فقال: (ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم} .

على أن في إنجيل لوقا، ما يفيد أن لـ مريم نسب مع النبي هارون أخي موسى، عن طريق زكريا، الذي كان متزوجًا امرأة من ذرية هارون اسمها أليصابات، وكانت امرأته نسيبة مريم، والصحيح أنها كانت خالتها.

ونص الإنجيل هو: {كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ الْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ. وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ} (لوقا: الأصحاح الأول/ 5) وفيه أيضًا: {وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضًا حُبْلَى بِابْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا} (لوقا: الأصحاح الأول/ 36) وبحسب نص الإنجيل نفسه، فلا يبعد أن يكون لـ مريم نسب بعيد مع النبي هارون، وعلى هذا فلا إشكال في التعبير القرآني.

- ومما يؤيد أن يكون المراد بلفظ (الأخت) هنا التشبيه لا الحقيقة، أن لفظ (الأخ) في القرآن يرد على سبيل الحقيقة، ويرد على سبيل المجاز، ومن الإطلاقات المجازية لهذا اللفظ قوله تعالى: {وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها} (الزخرف: 84)، فـ (الأخوة) بين الآيات أخوة مجازية، وليست حقيقية، وأيضاً قوله سبحانه: {واذكر أخا عاد} (الأحقاف: 21).

فالمقصود بـ {أخا عاد} هو هود عليه السلام، ومعلوم أن هوداً لم يكن أخاً لعاد، وإنما كان حفيداً له، وبينهما مئات السنين. وعلى هذا فمعنى أنها أخت هارون:  أنها من نسله وذريته، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللقرشي: يا أخا قريش، وللعربي: يا أخا العرب. فمعنى قولهم: {يا أخت هارون} أي: يا من أنتِ من ذرية ذلك النبي الصالح، كيف فعلت هذه الفعلة؟

فعلى ما تقدم وتبيَّن، يكون في معنى قول القرآن: {يا أخت هارون} احتمالان، كلاهما له ما يؤيده: أحدهما: أنها الأخت حقيقة؛ وهذا على معنى أنه كان لها أخ اسمه هارون؛ والثاني: المشابهة؛ وهذا على معنى أن ثمة قرابة بعيدة كانت تربطها بـ هارون أخي موسى، أو على معنى نسبتها لرجل صالح في زمنها كان يسمى هارون.

- على أن مما يدحض قول من يقول بهذه الشبهة أن يقال له: كيف يسكت اليهود - وهم ألد أعداء الإسلام- على هذا الخطأ التاريخي الفاحش، ولم يعتبروه مأخذاً على القرآن والإسلام؟ وهل من شأن هؤلاء القوم أن يغضوا الطرف عن مثل هذا الخطأ، لو كان الأمر كذلك؟

ومن مجموع ما تقدم يزول الإشكال الذي قد يرد على الآية، وتبطل دعوى الخلط والاضطراب في القرآن التي يدعيها البعض.

ومن المفيد في هذا السياق، أن ننبه إلى أن ما ورد في بعض المصادر من أن محمد بن كعب القرظي قد قال في قوله الله: {يا أخت هارون} قال: هي أخت هارون لأبيه وأمه، وهي أخت موسى أخي هارون، التي قَصَّت أثر موسى عليه السلام: {فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون} (القصص: 11).

نقول: إن ما ورد في هذا خطأ محض. ودليل خطئه أن القرآن قد ذكر أنه أتبع بـ عيسى بعد الرسل، فدل هذا على أن عيسى آخر الأنبياء بعثًا، وليس بعده إلا محمد، ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي، لم يكن عيسى متأخرًا عن الرسل، ولكان قبل سليمان و داود، فإن القرآن قد ذكر أن داود جاء بعد موسى، في قوله تعالى: {ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله} (البقرة: 246) وذكر القصة إلى أن قال: {وقتل داود جالوت} (البقرة: 251) فدلت الآيات القرآنية على أن موسى و هارون متقدمان على داود في الزمن. 

المصدر: موقع إسلام ويب